مفردات ارتبطت بآداب الطعام عند أهل "جبل العرب"
معين حمد العماطوري
تفضلوا... "تعب يمين وعرق جبين"
يفتح الحديث عن آداب الطعام في
الجبل أبواباً عديدة، ترتبط بنظرة الجبليين إلى الزاد، وطريقة تعاملهم مع
اللقمة، ونظرتهم إلى تحصيلها وتصريفها، وتعاملهم مع الضيف من خلالها، وما
هي آدابهم في تناولها، ولعل أول هذه القضايا قضية الحلال والحرام التي
يجعلها الجبليون من أولويات اهتمامهم فيما يتناولون من طعام وشراب، فهم
يتحرّون الدقة في اللقمة ويحرصون على أن تكون حلالاً زلالاً، ولذلك فهم
يحاولون أن يبعثوا الثقة في نفس من يدعونه إلى زادهم قائلين: "تفضلوا رزقات
حلال، زلال"، وربما أضافوا" تعب يمين وعرق جبين".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
يعتبر الجبلي لقمة الخبز نعمة من الله ينبغي المحافظة عليها، ولذلك فهو يقول: "هلّي بيحفظ النعمة الله بيحفظوا".
والمقصود بالنعمة لقمة الخبز، الباحث التراثي الأستاذ "فوزات رزق" عضو اتحاد الكتاب العرب تحدث لموقع eSwueda
بالقول: «يدعو الله أن تدوم هذه النعمة، إذ يصادف أن يعتذر أحدهم مقللاً
من شأن الطعام الذي قدمه لضيوفه قائلاً: "ما في شي محرز" فيبادرون إلى
الإجابة: "الله يديمها نعمة"، ويضيفون: "هذا خير الله"، وكثيراً ما قالوا:
"حرام نجحد النعمة" ولا يكتفون بذلك بل يحثون من لا يقدّر النعمة حق قدرها
بقولهم: "أدّم بنعمتك"، أي حافظ عليها.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وتعامل الجبلي مع لقمة الخبز المرمية في الطريق تبيّن مدى حرصه على نعمة
الله حينما يرفعها ويقبلها، ويضعها على رأسه، ثم يودعها في مكان بعيد عن
المداسات، ولطالما مارسنا هذه العادة بوحي من أهلنا حينما كنا صغاراً،
لفترة ليست بالبعيدة كان رجال الدين لا يتعاطون طعاماً أو شراباً إذا كان
مصدره أميرياً، فلا يتعاملون مع السكر، ولا مع الخبز المصنوع بالأفران
الحكومية، ولا مع الأكل المصنع والمعلب، ولا مع الماء المجرور بالأنابيب،
وذلك لأنه من مال الحكومة، والمال الأميري مشبوه>
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أما الشبهة في مال الحكومة فلأنها تجبي الضرائب، وترتب على تأخيرها الفوائد
وهذه الفوائد هي مصدر الشبهة، إذ يسمونها "الفايض أو الفرط"، وعندهم أن
الحكومة تأكل الفايض أو الفرط، وأكل الفرط مذمة كبيرة في المجتمع الجبلي:
"فلان بياكل فرط"، وربما أتى الموقف المتشدد من مال الحكومة من رواسب
العهود السابقة، حينما كانت الحكومة العثمانية، ومن بعدها الفرنسية ترهق
المواطنين بالضرائب بكل وسائلها المتشددة».
وإمعاناً في حفظ النعمة، وعدم التفريط بها فإن الأهل يحرصون على استهلاك
الرغيف بكامله، بما فيه حروفه القاسية التي يصعب تناولها أحياناً، وكيلا
تغدو هذه الحروف فضلة فإنهم يغرون الأطفال بتناولها زاعمين أن من يأكل
الحروف تطول قامته ويكبر بسرعة>
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وتابع الأستاذ "هايل القنطار" بالقول: «ولأن الأطفال تواقون للتشبه بالكبار
فإنهم يقبلون على حروف الرغيف القاسية، يلتهمونها معتقدين أنها ستصنع منهم
رجالاً في أقصر مدة ممكنة، كما يدعون لعدم التأفف من الطعام مهما كان نوعه
ويربطون ذلك بتلازم الصحة والعافية مع قبول الطعام كيفما كان شكله ونوعه،
ويقولون في ذلك: "هلي بيعوف ما بيربي كتوف"، أي من يعترض على نوعية الطعام
وطريقة إعداده لا تتوافر له الصحة الجيدة، ومن آدابهم في الطعام أنهم ينهون
عن الشراهة، ويعتبرونها عيباً، ويستخدمون في ذلك الاستفهام الإنكاري:
"الأكل إلك، بطنك مش إلك"، يخاطبون بها من أسرف في الأكل حد التخمة،
ويؤدبون أطفالهم بهذه الآداب، فإذا أظهر الولد شراهة في تناول الطعام
وإملاء اللقمة من الصنف الذي يتناوله زجروه بقولهم: "أدّم"، ويستخدم
الجبليون فعل أدّم بالتشديد بمعنى حافظ فيقولون: "أدّم بنعمتك"، أي حافظ
عليها، وبمعنى وفّر، ومن هنا جاء زجرهم للغلام الشره،
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
كما ينددون بأولئك الذين يقدمون على الطعام بلهفة، فينسون كل شيء لدى
رؤيتهم المائدة، إذ يقولون: "عند البطون ضاعت العقول"، على حين يمتدحون
الذي يكتفي بالقليل من الطعام معبرين عن ذلك بقولهم: "أكلو مثل نقد الطير"،
ويقولون في ذلك "نص البطن بيغني عن ملاتو" يسخرون من ذلك الذي لا همَّ له
إلا الأكل، فإذا أكل وشبع شعر بالانشراح دون أن يفكّر بهمّ آخر، وقد وصفوا
تلك الحالة بقولهم: "بطن مليان... كيف تمام"، وذلك في معرض السخرية. كما
وصفوا الشرِه بأنه "بو بطن"، وهم يدعون في أمثالهم ومأثوراتهم إلى القيام
عن الزاد بسرعة، ويعد ذلك فضيلة عندهم حينما يحثون الرجل كي يأكل بسرعة كما
يأكل الجمل كيلا يطول مكوثه على المائدة، إذ يقولون: "غُبّ غبَّ الجمال،
وقوم قبل الرجال"».
ويذكر الشيخ "جدعان الخطيب" بالقول: «لقد حرص الأقدمون على تعليم أطفالهم
آداب الطعام فلا يتقدم أحد على الزاد إلا بعد دعوته، حتى ولو كان في سن
الشباب، والأهم أنه لا يجوز أن يتقدم على من هو أكبر منه سناً أي بالعمر،
تلك الآداب جعلت المجتمع يتحلى بصفات نقلتها الأجيال عبر التوارث فيما
بينها».
ومن جيل الشباب كان للصحفي "تفيد أبو خير" رأي بقوله: «لعل اهتمام الكبار
في منظومة العادات والتقاليد منحت تلك العادات الديمومة وأصبحت ثقافة محلية
تعرف مناطق الشرق العربي، إذ لكل منطقة عاداتها وتقاليدها، وربما كان جبل
العرب غني في تكريس تلك الصفات من آداب الطعام في عدم الشراهة وحفظ النعمة
لأنه مر عبر التاريخ المعاصر بمحن تاريخية كبيرة جراء الاستعمار العثماني
والفرنسي في نشر الفقر بين الناس وبالتالي استطاع الأهالي الصمود بحفظهم
النعمة وتعليم أطفالهم على حفظها بطريقة تربوية، من قولهم: "إلي بياكل حروف
الرغيف بيطول وبيصير زلمة"، وهذه ثقافة تربوية، كذلك احترام الصغير للكبير
والمسن جميعها عادات تنم عن وعي مستقبلي لديمومة الحياة».